صير بني ياس
ألق الطبيعة الخلاب
تقع جزيرة صير بني ياس على بعد 240 كيلومترًا غربي إمارة أبوظبي، وتدعوك إلى أن تشد الرحال إليها، لتسكشف مزيجًا من بهاء طبيعة بكر، وألق إرث حضاري خلفه وراءهم أبناء قبيلة بني ياس، الذين وجدوا في الجزيرة مسكنًا آمنًا، وبابًا لرزق وفير يدره عليهم صيد الأسماك واللآلئ في بحر الخليج.
تهب نسائم عليلة من مياه الخليج الفيروزية، وتشرق الشمس فوق جزيرة تغفو تائهة في الخليج العربي، لترسم مشهدًا أخاذًا، تتداخل فيه تضاريس جبلية، تتزين فتنة بألوان بركان متفجر، ورمال تتوهج بذهب شواطئها، ومسطحات كساؤها خضرة أحراج، وشجيرات تستظل بفيئها قطعان من الحيوانات البرية، وطيور مستوطنة أو مهاجرة جعلت من أرض الجزيرة وسمائها ملاذًا لا يزاحمها عليه سوى بشر يأتونها زائرين، هاربين من مدن اعتادت أن تسرقهم بصخبها وزيفها من متع الحياة الأصيلة، وتنكر عليهم الإحساس بسكينة تنشدها النفس وتتوق إليها.
بدأ لقاؤنا الأول بالجزيرة نهاية أسبوع حتى قبل أن نصلها، فإذ تغاضينا عن الرحلة إليها من مرسى جبل الضنة على متن قارب يتهادى طيلة 20 دقيقة فوق مجرى مائي ضيق، واخترنا أن يكون سبيلنا إلى هذه الواحة المسكونة بهدوء غريب عن ضجيج مدنيتنا الحديثة متن طائرة حلقت بنا في كبد السماء، بدت الجزيرة لنا من علو أشبه بحجر زمرد يتوهج وسط زرقة المياه الفيروزية، حتى إذا دنت مركبتنا من مهبطها، غازلت أنظارنا مياه تلهو الدلافين فوق سطحها، ومرتفعات يهيم عبرها قطيع ظباء، وربوع خضراء تنحدر لتلثم الشاطئ، محتشدة بغابات السدر والطلح وشجيرات الأراك، أو أشجار الزيتون التي أنبتت ضمن مجموعات تتخذ شكل دلة قهوة عربية، كنا، آنذاك، في توق إلى رائحتها ومذاقها.
هذه الصور التي تزاحمت أمام أبصارنا جعلتنا جميعًا نعيش حالة من الترقب والرغبة الملحة في التزود من تلك الأسرار التي تحتجب وراء تشكلات صخرية تتلون بالأحمر والأخضر والبني، أو تختبئ بحياء بين خلجان صغيرة تظللها غابات شجيرات القرم التي لمحناها عبر كوات الطائرة. ولم نكد نطأ أرض الجزيرة ونتنفس نقاء هوائها ملء رئاتنا، حتى وجدنا موظفي «مركز الزوار» يستقبلوننا بحفاوة، مستهلين الضيافة بنبذة عن تاريخ هذه الواحة الضارب في القدم. فأرض الجزيرة، على ما علمنا من مرشدنا، تشكلت منذ نحو 150 مليون عام، والبشر عاشوا فيها منذ العصر الحجري، كما تثبت بعض المعالم الأثرية المحفوظة في المكان، وبقايا حضارات تعود إلى ما قبل الإسلام.
ثمة روائع يندر أن نصادف مثيلاً لها في حياتنا اليومية، فخلال الرحلة على متن حافلة كهربائية صديقة للبيئة أقلتنا من «مركز الزوار» إلى منتجع جزر الصحراء، حيث كنا سنبيت ليلتنا، انشغلت حواسنا، كما عدسات آلات التصوير، بتوثيق المناظر الطبيعية المترامية أمامنا، وراحت عيوننا تارة تستقر على مشهد غزال يعبر الطريق بتؤدة، أو زرافة تولم على أوراق شجرة، وطورًا تلاحق نعامة تعدو مسرعة إلى البعيد، فتفوت على معظمنا فرصة التقاط صورة منشودة، فيما المرشد المرافق لنا يعزينا بإمكانية استرجاع هذا المنظر لاحقًا لدى زيارة متنزه الحياة البرية العربية الذي أقيم أخيرًا على أرض الجزيرة، مستطردًا في الحديث عن التنوع الحيوي المتاح هنا بالقول: «تشكل الجزيرة التي تمتد على مساحة 87 كيلومترًا مربعًا محمية طبيعية يستوطن فيها اليوم نحو 10 آلاف حيوان من 30 فصيلة نادرة أو مهددة بالانقراض، بدءًا من غزلان المها، والزرافات، والظباء، والطهر العربي، وليس انتهاءً بالفهود الصيادة وحيوانات اللاما».
أما الطيور المستوطنة والمهاجرة، فبينها، حسب مرشدنا، طائر الحبارى الذي يكتسب أهمية بالنسبة إلى أبناء المنطقة، كونه يستخدم طريدة في صيد الصقور، الهواية التي تشكل جزءًا من تراث هذه البلاد، وبينها، أيضًا، طيور النعام الأفريقي، والريا، والإيمو، فضلاً عن طيور النحام الوردي التي استأنسنا بمظهرها لاحقًا، تتهادى في بحيرات اصطناعية، أو في برك ضحلة تحميها أشجار القرم.
بعد مرورنا بمقبرة إسلامية تعود إلى نحو 150 سنة خلت، بلغنا المنتجع الضخم الذي تديره أنانتارا للفنادق والمنتجعات، والذي تكاد تركيبته المعمارية تتماهى مع محيطها الطبيعي، إذ يشمخ بألقٍ وسط سحر هذه الواحة الفتان، فيما التصميم الداخلي لغرفه الأربع والستين، وفيلاته الست، يزاوج بين مظاهر ترف ورقي، ومعالم مميزة لإرث المنطقة، تعثرت بها أنظارنا في ردهات المنتجع ومجالسه. كما في تلك الغرف التي استقرت فيها أمتعتنا بين قطع أثاث، وتحف فنية، وزخارف تعكس طابعًا عربيًا أصيلاً، وتبشر بإقامة فاخرة نستمتع بها بعد قضاء قسط من يومنا في استكشاف أرض المحمية. وكان أول الغيث جولة من المرح على متن سيارات الدفع الرباعي التي انطلقت بنا إلى ما يُعرف بمتنزه «الحياة البرية والعربية». حيث طابت لنا مراقبة تلك الحيوانات التي سمعنا عنها من دليلنا السياحي، وانصرفنا إلى مراقبة قطيع خِرَاف تجمَّع بكسل عند جانب التل، وظباء تتنزه حرة في الجوار، غير آبهة بتطفلنا، قبل أن نكمل المسير، مرورًا بحواف صخرية ملحية استوقفتنا عندها جِرَاء فهد صيادة تتجول مع والدتها، جعلتنا نحبس أنفاسنا، مخافة أن نثقل عليها بحضورنا. أما ختام الرحلة، فكان إلى قمة تل يربض فوقها، وسط مساحات غناء تزهو بخضرة أشجارها، مجلس رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يرحمه الله، الذي كان صاحب الفضل في إطلاق مبادرة تشجير الجزيرة الجرادء، وتحويلها إلى محمية طبيعية تنبض اليوم بمظاهر الحياة البرية، وتشكل موئلاً للعديد من المشروعات البيئية التي تتولاها شركة التطوير والاستثمار السياحي في أبوظبي.
عشية ذاك اليوم الذي انتهى بمغامرة ترفيهية في قوارب الكاياك، وبعد زيارة إلى مركز أنانتارا الصحي في المنتجع اختبرنا في سياقها تقنيات علاجية قديمة تستخدم فيها الرمال، وأحجار الزمرد والعنبر، لتعزيز الإحساس بالاسترخاء بعد مشقة يوم طويل، أمتعنا حواسنا عند حوض السباحة في مطعم «سمك» بأطايب من البحر تُشوى على مرأى من أعيننا، وامتد بنا السهر حتى ساعة متأخرة، وقد خلبت ألبابنا سكينة مشبعة بنسيم صحراوي كان يحمل إلينا صوت رياح تصفر عبر الأشجار، وهمسات بحر تغازل أمواجه الرمال فيما يشبه الكر والفر، وتتداخل مع غناء أبيات من شعر قديم تبارى صحبنا في ترديدها.
في صبيحة اليوم التالي، لم ترَ غالبيتنا ضيرًا في النهوض قبل شروق الشمس بقليل، أملاً في نزهة وعدنا بها سيرًا على الأقدام، لنشهد لحظة تفيق فيها الطبيعة من نومها. وفيما اختار ضيوف آخرون ركوب الدراجات الهوائية صعودًا عبر التلال، آثر فريقنا السير عبر الخط الساحلي للجزيرة إلى محمية تتهادى فيها طواويس ملونة، وتتراكض عبر أرجائها طيور النعام الأفريقي، والغرنوق، والحجل، والتدرج، لتنقل إلينا إحساسها بالانعتاق من تلك العوالم المرهونة بمرور الوقت، هذا الوقت الذي غلبنا بالرغم من رغبتنا الملحة في أن نسبقه، فانقضى سريعًا بين جولة رماية السهام في وادٍ جميل تلفحه خيوط الشمس الذهبية، ورحلة في قوارب الغوص إلى جزيرة «غشا»، إحدى جزر الاستكشاف المجاورة، حيث حطام سفينة غارقة تحول إلى مسكن لمئات الأسماك، وحيث الشِّعَاب المرجانية تتمايل بخجل في حضرتنا.
هذا التيه الذي اختلسناه يومذاك من مشاغل دنيانا وهمومها ظل يرافقنا في رحلة العودة إلى بر أبوظبي، ويزيدنا حنينًا إلى زمن لم نعشه, وفرحًا بعالم ما خبرنا منه في يومين كان أقرب إلى تجربة تستوطن الذاكرة منه إلى رحلة عنوانها «سياحة بيئية استجمامية».